عاد لبنان ليكون عنوانًا كبيرًا في أزمة المنطقة إزاء سوريا. أسئلة كبرى بدأت تتدحرج مفرداتها على ساحة الواقع السياسيّ، وهي مستمدّة من الواقعيّة السياسيّة كمنهج عقلانيّ مجرّد يعين صاحبه على قراءة ما يجري على الأرض بلا زيغ ولا زغل. لكنّ أهمّها هو السؤال التالي: هل انتهت صلاحيّة الاستقرار بمدّته الزمنيّة على الأرض اللبنانيّة ليطلّ لبنان على حقبة جديدة تتمّ فيها محاصرة سوريا لكونه خاصرتها المرتخية؟
الأميركيون في الأساس هم من رسّخوا مبدأ الاستقرار، وجاء ذلك باتفاق مع السعوديّة وقطر، لتغطية الأحداث في سوريا، فساهم استقرار لبنان والأردن بتكثيف الصراع في سوريا مع تصدير الخلايا الإرهابية من البلدين إليها، أو عبر غرفة العمليات على الحدود السوريّة الأردنيّة. لكنّ الأمور تغيّرت. فجأة وبعد توقيع الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، ظهر خلاف بين الأميركيين والروس حول مفهوم الحرب على الإرهاب. الروس حذرون وخائفون على أمنهم وأمن أوروبا مع اشتداد الرياح التكفيريّة وعدم الوصول إلى نتائج ملموسة متأتيّة من تلك الحرب المصطنعة على الإرهاب، والمفترض بحسب القراءة الروسيّة وبعكس القراءة الأميركيّة أن لا تطول.
ولا تتوقّف الأمور عند تلك المسألة بل تحرّكت الخلافات مجدّدًا مع إصرار أميركيّ بحلّ سياسيّ من دون الرئيس السوري بشّار الأسد، في حين أن الروس رفضوا تلك القراءة، ورأوا بأنّ نظامه شرعيّ، وسقوطه يعني سيطرة القوى التكفيريّة، وهذا هو مصدر القلق على الأمن الروسيّ واستطرادًا الأوروبيّ. دخل الروس البوابة السوريّة بجيشهم النخبويّ، وقد زار قائد فيلق القدس قاسم سليمانيّ موسكو مرتين في هذا الشهر مؤكّدًا التنسيق مع الروس ومبطلاً ما تمّ تسريبه عن خلاف روسيّ إيرانيّ ليؤكّد أنهما في مسار استراتيجيّ واحد تجاه سوريا ولبنان والعراق. المشهد اكتملت عناصره، تأهّب الأسد، هاجم الأميركيين وأعلن رفضه الحلول السياسيّة قبل القضاء على الإرهاب، مطلقًا وكما وصفت "النشرة" وبدقّة رصاصة الرحمة على مبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا.
وفي انتظار الحسم الميدانيّ، انفجرت ساحتا الشهداء ورياض الصلح بالمتظاهرين المحتجين على مسألة النفايات والفساد. منظمو الحراك في بيروت استهلكوا ذلك العنوان واتجهوا نحو ما هو أبعد، اي إسقاط النظام. وفي تقييم أجراه مرجع سياسيّ لهذه المسألة قال إنّ ما يحصل في الشارع هو المؤتمر التأسيسيّ بعينه. وعلى الرغم من هذا التقييم للحراك اللبنانيّ غير الموحد في منهجيّته ومطالبه، والمرتكز على منهجيات متنوّعة تشي بتحريك ما من خلف الحجب، فإنّ الصورة العامّة الوافدة إلينا تعلن دخول لبنان مرحلة الفوضى الخطيرة والمزعزعة حتمًا لكيانيّة لبنان بحدودها الميثاقيّة. لا يعني ذلك بأنّ شباب لبنان وصباياه بمعظمهم معلّبون، بل العكس إن حراكهم مبارك في ظلّ قرف الناس من استهلاك السياسيين لهم في سبيل مصالحهم، واستهلاكهم للمرافق العامّة على حساب اللبنانيين عمومًا. ولكنّ التبويب بتصاعده جاء وفقًا لتخطيط شاء استعمال لبنان بصورة مفاجئة بعد اشتداد الحراك الروسيّ في سوريا، فتبدو الصورة مأخوذة إلى حراك يؤمّن انفلاشًا أمنيًّا يحاول محاصرة روسيا وإيران في سوريا.
بعض المصادر المراقبة رأت بأنّ منطقة الزبداني ستكون في تلك الحقبة العنوان الكبير بالإضافة إلى تحريك جبهة جرود عرسال المطلة على القلمون، في إطار الحسم. ويقال بأنّ الروس والإيرانيين متفقون على مبدأ الحسم على معظم الجبهات السوريّة بخطط استراتيجيّة، والمنطلق لذلك الحسم بالضرورة الجبهة السوريّة اللبنانيّة وبخاصّة على سلسلة جبال لبنان الشرقيّة. ولذلك إنّ الأسئلة بدأت تُطرَح حول معنى الاستقرار اللبنانيّ بوجه الحراك الروسيّ-الإيرانيّ في الداخل السوريّ. إنّ المسألة ليست بهذا الحراك المحقّ في لبنان بوجه نظام الفساد المستبدّ، فالحراك بهذا الاتجاه شرعيّ، ولكن بالأطر المغلّفة له. ففي الأسلوب يعلن المتظاهرون بانّ الطبقة السياسيّة برمّتها فاسدة، لكن في المضمون، إنّ تعميم الفساد على كلّ السياسيين بلا تمييز يظهر تلك الإرادة الآخذة لبنان إلى فوضى متلاشية في ظلّ غياب البدائل الموضوعيّة والمحيية للبنان، وفي ظلّ تجويف الحوار السياسيّ، وعدم الاتفاق على فكفكة العقد والاتجاه نحو تحديد قانون للانتخابات يؤمّن المناصفة الفعليّة ورئيس يمثل بيئته كما تشاؤها لذاتها ودورها ووجودها.
وتخشى بعض المراجع الأمنيّة من جعل الحراك الشعبيّ منطلقًا ومطيّة لفوضى أمنيّة تتوسّع من بعض الأحياء شيئًا فشيئًا آخذة البلد من جديد إلى صدام وجوديّ. لا تتجمّد المسألة عند حدود الخطر الأمنيّ كما اشار رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط، بل لبنان في خطر وجوديّ يعرف جنبلاط حقيقته وأسبابه الموجبة، وحين يشير إلى الانفجار فهو يفعل من موقع العارف المتصل بعمق الأحداث سواء قبل حدوثها أو أثناء حدوثها. وقد يكون ذلك مطلوبًا أميركيًّا مع ذلك التحوّل في الرؤى السابقة لإقرار الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ اميركيًّا وإيرانيًّا أو في هيئة الأمم المتحدة.
إن لبنان في تلك العناوين هو الساحة المثالية لاستهداف قوى كبرى في الساحات المجاورة بدءًا من سوريا. من هنا إنّ الاستقرار الذي طلب من اللبنانيين تأمينه قد يكون متجهًا إلى الإبطال بتراكم الحراك والمأخوذ إلى صدام مع القوى الأمنيّة على الأرض، وبوحشيّة لا قاع لها. والأهم في كلّ ذلك أن يدرك اللبنانيون بأنّ استبقاء الأزمة الداخليّة بلا حلول حقيقيّة وواعية، ستدخل وطنهم في مهبات خطيرة ومجهولة في ظلّ صراع كبير، لن تحسم عناوينه في الداخل اللبنانيّ قبل الحسم في سوريا.
لبننة الحراك الشعبي بمطالبه الاجتماعية ضروريّة. لكنّ مأساته أنه دخل بدوره صراعًا بنيويًّا يستنهضه السياسيون بين جمعية تظهر على حساب أخرى، والصراع البنيويّ يبقى عماد الفوضى، فحذار الوقوع في أوصابها لأنها ستعرّض لبنان إلى تسويات جديدة على حسابه من جديد يدخلها اللبنانييون وهم صاغرون.